أحدث المقالات

أخناتون

akh2

أخناتون أو أمنحوتپ الرابع هو فرعون من الأسرة الثامنة عشر، «آمون يرضى»، ويُدعى في المصادر الكلاسيكية أَمنوفيس . والده أمنحوتب الثالث (1417 -1379 ق.م)، ووالدته تيي التي تحدَّرت من بيئة شعبية، على خلاف ما عُرف عن زوجات الفراعنة اللواتي تحدّرن من سلالات مميزة. أما مرضعته فهي تي، وزوجها قائد المركبات أيي، وخالته شقيقة الملكة الأم هي «موت نجمة»

حكم مع زوجته نفرتيتي لمدة 17 سنة منذ عام 1369 ق.م كلمة أخناتون معناها الجميل مع قرص الشمس. حاول توحيد آلهة مصر القديمة بما فيها الاله أمون رعفي شكل الإله الواحد أتون. ونقل العاصمة من طيبة إلي عاصمته الجديدة أخت أتون بالمنيا. وفيها ظهر الفن الواقعي ولاسيما في النحت والرسم وظهر أدب جديد يتميز بالأناشيد للإله الجديد آتون. أو ما يعرف حاليا بنظام تل العمارنة. وإنشغل الملك أخناتون بإصلاحاته الدينية وانصرف عن السياسة الخارجية وإدارة الإمبراطورية الممتدة حتي أعالي الفرات والنوبة جنوبا. فانفصل الجزء الآسيوي منها. ولما مات خلفه أخوه توت عنخ أمون الذي ارتد عن عقيدة آتون وترك العاصمة إلى طيبة وأعلن عودة عقيدة أمون معلنا أنه توت عنخ آمون. وهدم كهنة طيبة آثار أخناتون ومدينته ومحوا اسمه من عليها.

وبداية حكمه اختلطت بنهاية حكم أبيه الذي بلغت مصر في عهده ذروة مجدها في تاريخها القديم، وامتد نفوذها من الجزيرة الفراتية والأناضول وكريت وحوض بحر إِيجه إِلى النوبة.

وقد تلقى الملك الشاب اسمه الملكي الذي حمله بعد تتويجه نفرخبرورع ولكنه بعد ست سنوات من اعتلائه العرش دعا نفسه أَخناتون وهو الاسم الذي اشتهر به.

سنوات حكمه المبكرة كأمنحوتپ الرابع

مرّت السنوات الأولى من حكم أمنحوتب الرابع، أخناتون، بوصفه مشاركاً للسلطة مع أبيه في العاصمة طيبة. ولكنه كان مصمماً على تحقيق إِصلاح ديني جذري، فترك العاصمة طيبة برضى أبيه الملك، وأسس على مسافة تقرب من ثلاثمئة وخمسة وسبعين كيلو متراً إِلى الشمال من طيبة، بعيداً عن أرض آمون, مدينة جديدة سرعان ما أضحت عاصمة زاهرة هي أخيت آتون (تل العمارنة).

ونقل أخناتون بعدئذ مقره إِلى هذه المدينة الجديدة ليعيش فيها مع زوجه وجواريه وأفراد حاشيته من كبار الموظفين وبناته الست اللواتي أنجبتهن نفرتيتي. ويبدو أن العائلة المالكة عاشت حياة سعيدة في أخيت آتون حتى انقسام الأسرة في أواخر سنوات حكمه.

akh5ولم يقتصر التغيير في أسلوب حياة الفرعون على علاقته بأسرته ورعيته, بل كان ثمة تغيير في أسلوب الملك تبرزه دراسة الرسائل الدبلوماسية في أرشيف تل العمارنة وهي تكشف عن أسلوب التراسل بين ملوك وأمراء كنعان وأمورو (فلسطين وسورية) من جهة والفرعون من جهة أخرى.

وتدل دراسة عصر العمارنة برمته على تدهور النفوذ الفرعوني في المناطق التابعة بعد التراخي في فرض هيبة الملك التي تراجعت كثيراً عما كانت في عصر تحوتمس الثالث. فمبالغ الجزية المفروضة على البلاد لم تعد تصل إِلى خزانة فرعون. ولم يتحرك القصر الفرعوني كما يقتضي الأمر لمواجهة الوضع الدولي الناجم عن تراجع مصر أمام تقدم النفوذ الحثي. ويبدو أن مؤامرة كبيرة أطرافها من الداخل: كهنة آمون في طيبة وقائد الجيش حورمحب من جهة, وأمراء كنعان وأمورو من جهة أخرى, قد تم تدبيرها للإطاحة بحكم العاهل الذي كان منصرفاً إِلى الإِصلاح الديني, من دون أن يكون محيطاً بما كان يجري من الأحداث حوله.

ومرّ زمن كان فيه الملك قابضاً بيد قوية على زمام الأمور في طيبة وفي القصر. وكان باستطاعته أن يأمر بتشييد معابد ضخمة لآتون في طيبة بجوار معابد آمون. ولكن بعد السنة الثانية عشرة من حكمه أخذ الضعف يدبُّ في بنية السلطة. ووقع الانشقاق في الأسرة الملكية نفسها. فتركت الملكة نفرتيتي القصر الملكي في وسط مدينة أخيت آتون مع المربية تي وزوجها الكاهن إِيي وأربع من بناتها والأمير الصغير توت غنخ آتون واتخذت لنفسها مقراً في شمالي المدينة، في حين استقر الملك في قصر آخر في جنوبي العاصمة. ووثق صلته بأخيه الأصغر «سمنخ كارع» ليجعله صهره وزوجاً لابنته وشريكاً له في إِدارة الُملك، وبذلك دخل عصر العمارنة مرحلة جديدة.

في هذه المرحلة تفاقمت حالة الملك النفسية، وازدادت تصرفاته اضطراباً، فغدت شبه عشوائية ووسّع جبهة المناهضين لحركته الدينية عندما أمر بتحطيم تماثيل آمون وبمحو اسمه من النقوش، وألغى ألقابه وكل ما كان يطلق عليه من صفات تعبر عن الاعتقاد بحماية عرشه الملكي. واتسع نطاق هذا التغيير في الحياة الدينية في مصر القديمة حتى شمل صورة الصقر التي يرمز بها إِلى الربّة نخبت, وشُوَّه اسم مدينة آمون (طيبة) المكتوب بالهيروغليفية، وأصدر الملك أوامره بإِزالة تلك الصور الممقوتة حتى حدود النوبة، وإِحلال عبادة آتون محلها في كل أنحاء البلاد.

وقد اصطدمت هذه السياسة الدينية التي قادها الملك بمعارضة قوية تزعمها كهنة المعابد الذين كانوا أكثر المتضررين من توحيد العبادة، وكذلك النبلاء الذين هدَّدت الإِصلاحات امتيازاتهم، والضباط والقادة العسكريون الذين تقلص نفوذهم في الدولة لقلة اهتمام الملك بالجيش ولعزوفه عن متابعة سياسة أسلافه التوسعية، فأصاب الوهن القدرات العسكرية للدولة وتدهورت هيبتها المعهودة داخلياً وخارجياً، وتوغلت دول الأناضول القوية في سورية. وقد أشارت وثائق العمارنة ولاسيما الرسائل الدبلوماسية منها إِلى حقيقة الوضع في فلسطين وسورية في مواجهة التوسع الحيثي.

وكان لانصراف أخناتون عن قيادة جيوشه أو تحريكها بطريقة فعالة من أجل المحافظة على مواقع مصر في آسيا الغربية، والاكتفاء بالعمل على نشر عقيدته الجديدة عواقب وخيمة كلّفت البلاد ثمناً باهظاً، إِضافة إِلى انهيار العلاقات التجارية لانعدام الأمن والاستقرار، وانتهت أيام الملك في خضم أزمة مأساوية، وآلت الأمور بادىء الأمر إِلى وريثه سمنخ كارع الذي عمل على إِعادة الاتصال بمنفيس وطيبة، وأعاد مصر إِلى التعددية الدينية.

ودفن أخناتون في عاصمته أخيت آتون. وقد تعرّف علماء الآثار على قبره، ولكنهم لم يعثروا إِلاّ على حطام ناووسه الملكي الذي رمم ونقل إِلى متحف القاهرة. أما مومياؤه التي لم يعثر عليها فلا يعرف أحد ماذا حلّ بها. وقد يكون أصابها ما أصاب أخيت آتون (تل العمارنة) من التدمير على يدي القائد حورمحب الذي كان في مقدمة من عمل على إِنهاء عصر العمارنة وعلى الإِطاحة بحكم أخناتون.

وقد عثر في وادي الملوك على مومياء يظن أنها مومياؤه ولكن لا توجد دلائل قاطعة على ذلك. وبعد سمنخ كارع الذي حكم مدة قصيرة اعتلى العرش توت عنخ آتون الذي اضطر إِلى تبديل اسمه إِلى توت عنخ آمون مؤذناً بإِعادة الاحترام لآمون ولكهنة طيبة الأقوياء. وهكذا انهارت هذه المحاولة المبكرة لقلب الوجدان الديني التقليدي في مصر القديمة ولإِحلال وحدانية الإِله محل التعددية.

تغيير اسمه إلى إخناتون

في عام 1380 ق.م مات أمنحوتپ الثالث الذي خلف تحتمس الثالث على عرش مصر بعد حياة حافلة بالعظمة والنعيم الدنيوي ، وخلفه إبنه أمنحوتب الرابع الذي شاءت الأقدار أن يعرف بإسم اخناتون. ولدينا تمثال نصفي لهذا الملك واضح المعارف ، عثر عليه في تل العمارنة،

ولم يكد يتولى الملك حتى ثار على دين آمون وعلى الأساليب التي يتبعها كهنته. فقد كان الهيكل العظيم بالكرنك طائفة كبيرة من النساء يتخذن سراري لآمون في الظاهر، وليستمتع بهن الكهنة في الحقيقة.

وكان الملك الشاب في حياته الخاصة مثالاً للطهر والأمانة، فلم يرضه هذا العهر المقدس؛ وكانت رائحة دم الكبش الذي يقدم قرباناً لآمون كريهة نتنة في خياشيمه كما كان إتجار الكهنة في السحر والرقى، وإستخدامهم نبوءات آمون للضغط على الأفكار بإسم الدين، ولنشر الفساد السياسي، مما تعافه نفسه، فثار على ذلك كله ثورة عنيفة، وقال في هذا: “إن أقوال الكهنة لأشد إثماً من كل ما سمعت حتى السنة الرابعة (من حكمه)؛ وهي أشد إثماً مما سمعه الملك أمنحوتب الثالث

وثارت روحه الفتية على الفساد الذي تدهور إليه دين شعبه، وكره المال الحرام والمراسم المترفة التي كانت تملأ الهياكل، وأحفظه ما كان لطائفة الكهنة المرتزقة من سيطرة على حياة الأمة. ثار الرجل على هذا كله ثورة الشعراء، فلم يقبل تراضياً ولم يقنع بأنصاف الحلول، وأعلن في شجاعة أن هاتيك الآلهة وجميع ما في الدين من إحتفالات وطقوس كلها وثنية منحطة، وأن ليس للعالم إلا إله واحد هو- آتون.

ورأى إخناتون- كما رأى أكبر في الهند من بعده بثلاثين قرناً- أن الألوهية أكبر ما تكون في الشمس مصدر الضوء وكل ما على الأرض من حياة. ولسنا نعلم هل أخذ نظريته هذه عن بلاد الشام، أو ابتدعها من عنده وهل كان آتون مجرد صورة أخرى لأدنيس. وأياً كان أصل هذا الإله فقد ملأ نفس الملك بهجة وسروراً ، فإستبدل بإسمه الأول أمنحوتب المحتوي على لفظ آمون إسم إخناتون ومعناه “آتون-راض” ، وإستعان ببعض الترانيم القديمة، وبعض قصائد في التوحيد- نشرت في أيام سلفه – فألف أغاني حماسية في مدح آتون.

شرح عقيدة التوحيد عند أخناتون

akh3لعل عقيدة التوحيد هذه كانت صدى لوحدة عالم البحر الأبيض المتوسط تحت حكم مصر في عهد تحتمس الثالث، كما يقول برستد. ويرى إخناتون أن إلهه رب الأمم كلها . إن آتون لا يوجد في الوقائع والانتصارات الحربية، بل يوجد في الأزهار والأشجار وفي جميع صور الحياة

وليس الإله إنساناً في صورة البشر دون غيرها من الصور ، بل إن هذا الإله الحق هو خالق حرارة الشمس ومغذيها ؛ وليس ما في الكرة المشرقة والآفلة من مجد ملتهب إلا رمزاً للقدرة الغائبة. على أن هذه الشمس نفسها تصبح في نظر إخناتون “رب الحب” لما لها من قدرة شاملة مخصبة مباركة

وهكذا يصبح آتون آخر الأمر رمزاً للأبوة الجزعة القلقة الرحيمة الرقيقة القلب كان رب الرحمة والسلام. ومن مآسي التاريخ أن إخناتون بعد أن حقق حلمه العظيم حلم الوحدانية العامة التي سمت بالبشرية إلى الدرجات العُلى لم يترك ما في دينه الجديد من صفات نبيلة يسري في قلوب الناس ويستميلها إليه على مهل ، بل عجز عن أن يفكر في الحقائق التي جاء بها تفكيراً يتناسب مع الواقع. لقد خال أن كل دين وكل عبادة عدا عقيدته وعبادته فحش وضلال لا يطاق.

فأصدر أمره على حين غفلة بأن تمحى من جميع النقوش العامة أسماء الآلهة كلها إلا اسم آتون، وشوه إسم أبيه بأن محا كلمة آمون من مئات الآثار، وحرم كل دين غير دينه، وأمر أن تغلق جميع الهياكل القديمة. وغادر طيبة لأنها مدينة نجسة، وأنشأ له عاصمة جديدة جميلة في إخناتون “مدينة أفق آتون”.

وما لبثت طيبة أن تدهورت بعد أن أخرجت منها دور الحكومة- وخسرت رواتب الموظفين، وأضحت إخناتون حاضرة غنية أقيمت فيها المباني الجديدة- ونهض الفن بعد أن تحرر من أغلال الكهنة والتقاليد. ولقد كشف السير وليم فلندرز بيتري في تل العمارنة- وهي قرية حديثة أنشئت في موقع إخناتون القديمة- طواراً جميلاً تزينه صور الطيور، والسمك وغيرهما من الحيوانات ، رسمت كلها أدق رسم وأجمله. ولم يفرض إخناتون على الفن قيوداً بل كل ما فعله من هذا القبيل أن حرم على الفنانين أن يرسموا صوراً لآتون، لأن الإله الحق في اعتقاده لا صورة له.

وما أسمى هذه من عقيدة. ثم ترك الفن بعدئذ حراً طليقاً ، عدا شيئا واحداً آخر، وهو أنه طلب إلى فنانيه: بِك، وأوتا، ونتموز، أن يمثلوا الأشياء كما يرونها، وأن يغفلوا العرف الذي جرى عليه الكهنة. وصدع هؤلاء بأمره، وصوروه هو نفسه في صورة شاب ذي وجه ظريف رقيق رقة تكاد تبلغ حد الوجل، ورأس مستطيل مسرف في الطول، واسترشدوا في تصويرهم بعقيدته الحيوية في إلهه، فصوروا كل الكائنات الحية نباتية كانت أو حيوانية في تفصيل ينم عن حب وعطف عظيمين، ودقة لا تسمو عليها دقة في أي مكان أو زمان. وكان من أثر هذا أن ازدهر الفن أعظم ازدهار لأن الفن في جميع العصور يحس بآلام المسغبة والقتام.

ولو أن إخناتون كان ذا عقل ناضج لأدرك أن ما يريده من خروج على تعدد الآلهة القديم المتأصل في عادات الناس وحاجاتهم، إلى وحدانية فطرية تخضع الخيال للعقل، لأدرك أن هذا تغيير أكثر من أن يتم في زمن قصيرة؛ وإذن لسار في عمله على مهل وخفف من حدة الانتقال بأن جعله على مراحل تدريجية. ولكنه كان شاعراً لا فيلسوفاً، فاستمسك بالحقيقة المطلقة فتصدع بذلك جميع بناء مصر وانهار على أم رأسه.

ذلك أنه ضرب ضربة واحدة جرد بها طائفة غنية قوية من ثرائها فأغضبها عليه، وحرم عبادة الآلهة التي جعلتها العقيدة والتقاليد عزيزة على الناس. ولما أن محا لفظ آمون من إسم أبيه خيل إلى الناس أن هذا العمل زيغ وضلال، إذ لم يكن شيء أعز عليهم من تعظيم الموتى من أسلافهم.

وما من شك في أن إخناتون قد إستخف بقوة الكهنة وعنادهم، وتغالي في قدرة الشعب على فهم الدين الفطري. وقام الكهنة من وراء الستار يأتمرون ويتأهبون، وظل الناس في دورهم وعزلتهم يعبدون آلهتهم القديمة المتعددة. وزاد الطين بلة أن مئات الحرف التي لم تكن لها حياة إلا على حساب الهياكل أخذت تزمجر في السر غضباً على الملك الزنديق، بل إن وزرائه وقواده بين جدران قصوره كانوا يحقدون عليه ويتمنون موته. ألم يكن هو الرجل الذي ترك الدولة تنهار وتتقطع أوصالها بين يديه؟.

akh6وكان الشاعر الفتى في هذه الأثناء يعيش عيشة البساطة والإطمئنان. وكانت له سبع بنات ولكنه لم يكن له ولد ذكر. مع أن القانون كان يجيز له أن يطلب وارثاً ذكراً من زوجة ثانية، فإنه لم يقدم على هذا الحل، وآثر على أن يظل وفياً لنفرتيتي. ولقد وصلت إلينا تحفة صغيرة من عهده تظهره يحتضن الملكة؛ كما أجاز لمصوريه أن يرسموه في عربة يسير بها في الشوارع يلهو ويطرب مع زوجته وبناته. وكانت الملكة تجلس إلى جانبه في الإحتفالات وتمسك بيده كما كانت بناته يلعبن إلى جانب عرشه. وكان يصف زوجته بأنها: “سيدة سعادته” ويقول “إن الملك يبتهج قلبه حين يسمع صوتها”؛ وكان في قسمه يقسم بهذه الصيغة: “بقدر ما تسعد قلبي الملكة وأطفالها”. لقد كان حكم هذا الملك فترة من الحنو والعطف وسط ملحمة القوة والسلطان في تاريخ مصر.

وجاءت الرسائل المروعة من الشام تنغص على الملك هذه السعادة الساذجة البريئة، فقد غزا الحيثيون وغيرهم من القبائل المجاورة لهم البلاد التابعة لمصر في الشرق الأدنى. وأخذ الحكام المعيَّنون من قِبَل مصر يلحون في طلب النجدة العاجلة. وتردد إخناتون في الأمر؛ ذلك أنه لم يكن على ثقة من أن حق الفتح يبرر إخضاع هذه الولايات لحكم مصر؛ وكان يكره أن يرسل المصريين ليهلكوا في ميادين القتال البعيدة دفاعاً عن قضية لا يثق بعدالتها.

ولما رأت الولايات أنها لا تطلب النجدة من ملك حاكم بل تطلبها من ولي صالح ، خلعت حكامها المصريين، وإمتنعت في غير جلبة عن أداء شيء من الخراج ، وأصبحت حرة مستقلة في جميع شؤونها. ولم يمض من الزمن إلا أقصاه حتى خسرت مصر إمبراطوريتها الواسعة، وانكمشت حتى عادت دولة صغيرة ضيقة الرقعة. وسرعان ما أقفرت الخزانة المصرية التي ظلت قرناً كاملاً تعتمد أكثر ما تعتمد على ما يأتيها من الجزية الخارجية. ونقصت الضرائب المحلية إلى أقصى حد، ووقف العمل في مناجم الذهب، وعمت الفوضى في جميع فروع الإدارة الداخلية. وألفا أخناتون نفسه فقيراً لا صديق له ولا معين في عالم كان يخيل إليه من قبل أنه كله ملك له. واندلع لهيب الثورة في جميع الولايات التي كانت تابعة لمصر وقامت جميع القوى الداخلية في وجهه تناوئه وتترقب سقوطه.

ولم يكد يتم الثلاثين من عمره حتى توفي في عام 1362 ق.م محطم القلب بعد أن أدرك عجزه عن أن يكون مَلِكاً وأيقن أن شعبه غير جدير به.

السياسات الدينية

في ظل هذه الظروف بدأ أمنحوتب الرابع وهو ولي للعهد، وفي حياة أبيه, ممارسة العبادة والشعائر الدينية المتوارثة عن آبائه, ولاسيما ما تعلّق بآمون – رع الإِله الرسمي للدولة. وأخذ في الوقت نفسه يعلن عن أفكار دينية جديدة تطورت حتى تحولت إِلى الهرطقة (البِدْعه) لخروجها على التعاليم التقليدية السائدة. ولكن توجهاته الدينية المجددة ازدادت وضوحاً بعد أن خلف أباه على العرش.

وفي السنة السادسة من حكمه (1374ق.م) أعلن الملك مبادىء ديانة جديدة تدعو إِلى عبادة إِله واحد هو «آتون», وقد مثّله بقرص الشمس المجنّح. ومن دون أن يقطع الملك صلاته بالتقاليد الموروثة عمل على إِبراز بعض المظاهر التي رآها أكثر واقعية في التعبير عن الإِله الذي أراده أن يكون أكثر قرباً من الناس جميعاً، وعالمياً، موجوداً في كل مكان، في ذلك العصر الذي فتحت فيه مصر أبوابها للالتقاء بمن حولها من جيرانها, وكان عليها من جرّاء ذلك أن تعيد النظر في أسس حياتها الداخلية والروحية.

لا تتضمن شعائر العبادة في ديانة أخناتون الجديدة أية إِجراءات سرية، ولم تفرض على الناس شعائر معينة, ولكن لا يعرف كيف تم التحول عن العبادات القديمة إِلى العبادة الجديدة. وتدل الشواهد الأثرية على أن أخناتون أقام عدداً من المنشآت العمرانية، أبرزها معبد الكرنك الشهير( قرب مدينة الأقصر اليوم), ومدينة أخيت آتون، عاصمته الجديدة، التي يقوم تل العمارنة في صعيد مصر فوق أنقاضها القديمة.

ففي الموقع المعروف اليوم باسم الكرنك يقوم مجمَّع أثري يضم عدداً من المعابد التي كان أهمها بيت آمون المعبود المفضّل لدى الطبقة الحاكمة من الأسرة الثامنة عشرة، وتحيط به بيوت كبار الكهنة. في هذا المكان، وإِلى الشرق من هرم آمون أقام أخناتون معبداً لآتون، للشمس المشرقة. وكان الهدف من ذلك واضحاً وهو تأسيس ديانة جديدة لتحل محل العبادة القديمة. وتوجه في تراتيل شعرية مؤثرة إِلى ربّه آتون, الذي رمز إِليه بقرص الشمس، وأعلن أن لا حياة لشيء من دونه.

وفي دعوته المجدَّدة يعلن الملك الكاهن أن بركات آتون ليست وقفاً على مصر وأهلها, وإِنما هي للمخلوقات الموجودة في كل مكان من البشر والحيوان، فيمنح آتون عند شروقه القوة للكائنات ويحييها حتى تستمر نعمة الحياة وعند غروبه تفتر الحياة في كل شيء. وعندما يفقد العالم نسمة الحياة, يدخل هذا العالم في خمود، في الوقت الذي تشحن فيه الشمس بطاقة جديدة حيث كانت تختفي عن الأنظار. وقد وجد عدد من الباحثين تشابهاً بين مضمون هذه الترانيم الأخناتونية وسفر المزامير الذي يعزى إِلى داود (القرن العاشر ق.م) ولاسيما المزمور 104.

وفي الديانة الأخناتونية أُدخلت تعديلات على النظريات المتعلقة بالموت والشعائر الجنائزية، وتقاليد الدفن، وقُدّمت تفسيرات نشورية جديدة للتقاليد الأوزيرية القديمة المتعلقة بالعالم الآخر. أما آمون وهو القوة الخفية كما يدل على ذلك اسمه, فلم يعد يمثل عند الملك شيئاً سوى ما هو عجيب. فالملك الذي اختار للإِله اسماً قديماً معروفاً في نصوص الأهرام، من الألف الثالث ق.م هو آتون أي كوكب عين الشمس مصدر كل شيء, صار يدعى عند رعيته أخناتون أي «عبد آتون».

واستخدم أخناتون الفنون التشكيلية لنشر تعاليمه، فعمل بنفسه على تعليم الفنانين وتوجيههم في عصره لأنه كان يرى من الضروري ترجمة أفكاره الدينية الجديدة في أشكال واقعية. ففي المعبد الذي أقامه شرقي الكرنك لآتون عولجت صورة الملك وصور أسرته بواقعية مدهشة. وأبرزت في صورة أخناتون تشويهات مقصودة للجسم، ورسمت على الوجه علاماتٌ دالةٌ على الاستبطان عند الفنان الذي كان يهتم بأن يعكس في عمله تجربة ذاتية عميقة في معاينة ما يجري في الفكر في تلك المرحلة من تاريخ مصر

فأخناتون يوصي بأن كل شيء يجب أن يضحّى به من أجل الحقيقة التي هي مصدر التوازن والعدالة والحياة وهي عناصر صورة القداسة كما تعكسها مرآة الإِيمان”.

رسوم الفرعون والعائلة

akh4وتجسد هذه الأسرة الروحانية والنموذجية الإله الأوحد على الأرض. كما كانت المعابد والمقابر تحفل بصوره أثناء ظهوره على الملأ، أو في داخل قصره بصحبة بناته وهو يتنفس، ويأكل ويروح ويغدو، ويلعب، ويقدم القرابين، وهو يتعبد واقفا تحت أشعة الشمس الهائلة التي تنير الحياة بأذرعتها. وكانت الأعياد التي تقام تمجيدا لهذا الثالوث بمثابة مناسبة عامة للمناظر والتركيبات الكبيرة التي تصف الأعياد الأساسية والقرابين الموضوعة داخل المعابد الغير مسقوفة، وزيارات المقاصير، وتلقي الجزية، ومكافأة الوزراء، وحماسة وحمية المخلصين، وكافة أنشطة الرعايا، وكلها عبارة عن تعبير خطي حي، يختلج بالحياة، ويتلون ويتنوع من خلال تفاصيل رائعة.

وقد خلت منازل العمارنة إلا مما يمثل هذا الثالوث الإلهي: الشمس والملك والملكة. وكنوع من الابتكار الفني الجديد أو كتجسيم رمزي لتشوه ما في خلقة الملك، كان هو وزوجته يبدوان في النقوش البارزة كما في الرسوم بوجه ممتد مستطيل، فوق جسم مخنث. وقد عمم هذا النمط الغريب من نوعه لتصوير أي شخص . وفي البداية تميز الفن بالمغالاة لدرجة تجرح الإحساس وتتناقض مع قواعد علم الجمال التي كانت سائدة خلال الحكم السابق (مثل تماثيل الكرنك العملاقة)، لكنه عولج بشكل متحفظ في حذق ومهارة بالعمارنة (مثل التماثيل النصفية للملكة نفرتيتي)

الأسرة والعلاقات

ونعرف من خلال عدد قليل من الوثائق أن أخناتون قد اتخذ إلى جانب الملكة نفرتيتي زوجة ثانوية تدعى “كيا  (قد تكون هي أم توت عنخ آمون). لكن لا يعتقد أبدا أن خلافا ما قد فرق بين الزوجين اللاهوتين . فعندما اختفت نفرتيتي في حوالي العام الرابع عشر ، احتلت مكانتها بصفة شكلية “مريت آتون كبرى بناتها الست اللاتي أنجبتهن للفرعون، ومن بعدها ظهرت ثالثتهن المدعوة “عنخ إس إن با آتون  في المناسبات الدينية.

العلاقات الدولية

وإذا كانت النصوص التي تتناول الموضوعات الدينية لم تشر إلى المنازعات الدولية التي لا مفر منه، فإن هناك بعض الموضوعات المصورة قد حفظت لنا حفظا تاما، تبين أن الملك الرسول لم يقم مطلقا حتى من الناحية النظرية بوظيفته الحربية التقليدية التي يجب على الفرعون بمقتضاها أن يصد الشعوب الأجنبية ويخضعها. وفي منتصف فترة حكمه قام نائب الملك في كوش بقمع إحدى حركات التمرد النوبي قمعا قاسيا – كالمعتاد. ولم تكن مصر المنتصرة تميل إلى شن الغزوات على آسيا خلال حكم أمنحوتب الثالث بالرغم من المطامع والميول التوسعية من جانب الجيشين والميتانيين، وبالرغم أيضا من المؤامرات التي كان يحبكها بعض صغار الملوك التابعين لمصر

وتكشف لنا الوثائق الدبلوماسية التي عثر عليها بالعمارنة، والمصادر الحبشية، أن الأوضاع كانت متدهورة للغاية عند ارتقاء الملك أمنحتب الرابع العرش، ولم يستطع كبار القادة المشكوك في أمورهم، والعمليات الحربية المحدودة للغاية التي قامت بها فرق الجيش المصرية أن تحمي “جبيل” الوفية المخلصة لمصر من مطامع “الأسرة الأمورية”، بل لم تستطع أن تمنع “خاتي  من دحر الحليف الميتاني، ومن ضم سوريا، أو قمع ثورات الفرق غير النظامية في فلسطين. وتبرير هذا العجز بأن الفرعون كان متقوقعا داخل صومعته الخيالية المثالية، ولا يهتم شخصيا بأمر الدفاع المسلح وبالألاعيب الدبلوماسية، إنما هو تبرير تافه.

الوفاة، الدفن

وقد توفي الملك أخناتون في العام الثامن عشر من حكمه، ولقد عثرنا على مدفنه العائلي الذي كان قد أمر بنحته في قلب جبل العمارنة، في حالة سيئة بعد سلبه ونهبه وتخربيه، كما دمرت خراطيش أخناتون وصوره وتماثيله أينما وجدت خلال الفترة التالية لحكمه. كما هدمت معابد آتون واستخدمت أحجارها في حشو المنشآت الجديدة. وبمرور الوقت أعيد لآمون مجده فتم إصلاح وتجديد أسماؤه وأشكاله على الجدران ، وعادت كلمة “آتون” من جديد إلى ما كانت عليه كوصف ومعنى للجزء المرئي من الشمس والقمر . واستعاد الإله والآلهة طقوسهم وأهميتهم.

عن Madeha Genady

Madeha Genady
مصر كما رأيتها و أحيا على أرضها و أرتوى من نيلها -------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- مصر التي في خاطري وفي فمي ........ أحبها من كل روحي ودمي ......... ياليت كل مؤمن بعزها ......... يحبها حبي لها ......... بني الحمى والوطن ......... من منكم يحبها مثلي أنا

شاهد أيضاً

سيتى الأول

مقدمة  : يعتبر الفرعون الشهير سيتى الأول من أعظم وأشهر الملوك الفراعنة المحاربين فى عصر ...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *