خلفية تاريخبة :
بعد وفاة الظاهر بيبرس سنة 676هـ 1278م خلفه على الحكم اثنان من أولاده هما بركة خان وبدر الدين سلامش لكنهما لم يستمرا طويلاً في الحكم
لصغر سنهما وعدم أهليتهما لممارسة أعباء الحكم فالأول كان في السابعة عشرة من عمره عندما تولى الحكم وكان على النقيض من أبيه شابًا مستهترًا يميل إلى اللهو والشراب سييء الرأي والتدبير فنفر منه كبار الأمراء وقاموا بخلعه وأما الآخر فكان طفلاً حدثًا في السابعة من عمره
لا يعرف معنى السلطة ولا يستطيع أن يقدر على حمل شيء صعب من تبعاتها فقام الأمير سيف الدين قلاوون
بالوصاية على السلطان الصغير وذلك لإدارة أمور الدولة كاملة نيابة عنه حتى إذا أمسك زمام الأمور بيده وصار الحكم طوع بنانه أقدم على ما لا بد منه فخلع السلطان الطفل الذي لا يعرف لماذا أقيم على السلطنة ولم خلع وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد
تولى قلاوون الحكم :
كان الأمير سيف الدين قلاوون أحد المماليك البحرية اشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر بألف دينار فعُرف قلاوون بالألفي ولما توفي الأمير علاء الدين
انتقل إلى خدمة الملك الصالح أيوب ثم أهّلته مواهبه وملكاته لأن يبرز على الساحة في الفترة التي خرجت فيها دولة المماليك البحرية إلى الوجود ولمع في عهد السلطان الظاهر بيبرس الذي أولاه ثقته لرجاحة عقله وشجاعته وتصاهرا حيث تزوج بركة خان بن السلطان بيبرس من ابنة قلاوون تأكيدًا على روح المحبة والصداقة بينهما
ولما ساءت سلطنة بركة خان وفشل في القيام بأعباء الحكم لخفته ورعونته وسوء تصرفه أجبره الأمراء على خلع نفسه من الحكم وكان لقلاوون
يد قوية ظاهرة في هذا الخلع وتطلع إلى الحكم وهو به جدير لكنه قد انتظر هذه الفرصة المناسبة وذلك ليثب على الحكم دون أن ينازعه أحد فلما وافته الفرصة اقتنصها وعزل السلطان الصغير وتولى هو الحكم في شهر رجب 678 هـجرية الموافق نوفمبر 1279 ميلادية وبايعه الأمراء وأرباب الدولة
وتلقب بالملك المنصور وأجمع المؤخرون على وصف السلطان قلاوون بأطيب الصفات وأنبلها ولعل من أبلغ هذه الأوصاف ما قاله بيبرس المنصوري “كان حليمًا عفيفًا في سفك الدماء
مقتصدًا في العقاب كارهًا للأذى”غير أن قلاوون لم يسلم من اعتراض كبار أمراء المماليك على توليه الحكم وكان بعضهم يرى نفسه أحق بالسلطنة منه
فهم هؤلاء كبراء أمراء المماليك على درجات متقاربة من القوة والنفوذ لكن السلطان منصور قلاوون نجح بالقوة أحيانًا وبالسياسة أحيانًا أخرى في أن يمسك بزمام الأمور
ويقضي على الثورات الكثيرة التي قامت في وجهه وقد نجح السلطان منصور قلاوون في استمالة قلوب الناس إليه لرأفته ولينه وميله إلى رفع ما يزيد من معاناتهم فألغى كثيرًا من الضرائب التي كانت تُفرض على الناس وأبطل كثيرًا من المظالم التي عانى الشعب منها
مواصلة الجهاد :
تختلف سياسة السلطان قلاوون الخارجية عن سياسة سلفه الظاهر بيبرس الذي نجح في تثبيت أركان دولة المماليك ووضع لها أسسها ونظامها وفرض هيبتها على كل أعدائها وأمّن حدودها جيداً فلا غرو إذن أن كان هو المؤسس الحقيقي لدولة المماليك وأدرك قلاوون أن الخطر لا يزال يحدق بالبلاد ما دامت القوى الصليبية لا تزال تحتل أجزاء من بلاد الشام وأن المغول تتطلع أنظارهم إلى الاستيلاء على مصر والشام فأخذ للأمر أهبته واستعد له بما يستحق من عناية واهتمام
وكان من الصعب عليه أن ينازل قوتين في وقت واحد فلجأ إلى إحداث الفتن بين خصومه الذين تحالفوا جميعًا ضده وكان ثمة مشروع صليبي مغولي آخذ في التكوين لضرب دولة المماليك
ولما كان المغول أكثر خطرًا وأعظم استعدادًا فإن همة السلطان قلاوون قد اتجهت إليهم أولاً بعد أن عقد معاهدة صلح مع الصليبيين في الشام سنة 680هـجرية _ 1281ميلادية
لمدة عشر سنوات حتى يتفرغ لمنازلة المغول فخرج للقائهم بعد أن أغاروا على الشام ومارسوا عاداتهم الهمجية في السلب والنهب وقتل الأبرياء ونجح السلطان قلاوون
في أن يلحق بهم هزيمة مدوية في موقعة حمص في 14 شهر رجب 680 هـجرية الموافق 30 من شهر أكتوبر 1281ميلادية فقد هلك فيها من جنود المغول أعداد كبيرة جداً وولى الباقون الأدبار إلى شرقي نهر الفرات ثم تحسنت بعد ذلك العلاقات نسبيًا بين دولة المغول ودولة المماليك بعد أن تولى الحكم تكودار بن هولاكو خلفًا لأخيه أبغا وقد أعلن إسلامه
وكان السلطان المنصور قلاوون شديد الرغبة في إقامـة علاقـات ودية وقوية مع دولة المماليك لكن هذا التحسن للأسف
لم يدوم طويلاً ف سرعان ما أطاح به وبآمـاله أرغون وهو ابن أخيه عن حكم دولة المغول وقد عاد التوتر بين الدولتين المغول والمماليك من جديد دون أن يحسم السلطان قلاوون أمره مع دولة المغول فظلوا خطرًا كبيراً محدقًا بدولته وإن نجح في كبح جماح هذا الخطر
الجهاد ضد الصليبيين :
لم يصبر قلاوون على انتهاء المعاهدة التي عقدها مع الصليبيين وكانوا لا يزالون خطرًا على الدولة يحتلون أجزاءً من أراضيها ولا يحترمون عهدًا
ولا ذمة إذا ما سنحت لهم فرصة أو اشتدت بهم قوة فهاجم السلطان قلاوون حصن المرقب وهو من أقوى وأمنع الحصون الصليبية في الشام وذلك في سنة 684 هـجرية الموافق 1285 ميلادية ونجح في الاستيلاء عليه ولم يبق للصليبيين من إماراتهم سوى طرابلس التي يحكمها أمراء النورمان وعكا
التي أصبحت مقر مملكة بيت المقدس بالإضافة إلى بعض الحصون مثل حصني المرقب وطرسوس ولم تكن الجبهة الصليبية متماسكة البناء بل كانت الخلافات تفتك بها
فوجد السلطان قلاوون في ذلك فرصة سانحة للانقضاض على الإمارات الصليبية المتبقية فأرسل حملة عسكرية تمكنت من الاستيلاء على اللاذقية سنة 686 هـجرية
الموافق سنة 1287 ميلادية وبعد سنتين خرج السلطان بنفسه إلى طرابلس على رأس قوة كبيرة قوامها أكثر من أربعين ألف جندي وحاصرها أربعة وثلاثين يومًا استسلمت بعدها
في ربيع الآخر سنة 688 هجرية الموافق شهر إبريل سنة 1289 ميلادية وعلى إثرها سقطت المدن الأخرى المجاورة مثل بيروت وجبلة وانحصر الوجود الصليبي في عكا وصيدا وصور وغيليت بعد أن كانت ممتلكاته واسعة تمتد على طول الساحل الشامي للبحر المتوسط. وتوفي السلطان المنصور دون أن يتحقق أمله في إسقاط عكا
حيث إنها آخر الإمارات الصليبية غير أن الذى حدث والأقدار شاءت أن ينال ابنه خليل المنصور قلاوون ينال شرف إنهاء الوجود الصليبي تماماً
في كل بلاد الشام بعد أن نجح نجاح باهر في اقتحام أسوار عكا المنيعة في يوم 17 جمادى الآخرة سنة 690 هـجرية الموافق يوم 18 مايو 1290 ميلادية وبعد عكا سقطت بقية المعاقل الصليبية في كل الشام وطويت آخر صفحة من صفحاتها
النشاط الحضارى :
على الرغم من انشغال السلطان قلاوون بمجابهة الخطر الصليبي والمغولي وإعداد الحملات العسكرية التي استنفدت المال والجهد فإن السلطان لم يغفل عن تنشيط
الحركة العلمية ومواصلة البناء والعمارة وإقامة المدارس والمساجد وكانت القاهرة قد أصبحت موئلاً للعلم ومركزًا للحضارة بعد سقوط بغداد
وازدياد سقوط دول الإسلام في الأندلس على يد الأسبان فتوافد عليها العلماء واتخذوها قبلة لهم ووجدوا في كنف السلاطين المماليك كل رعاية واهتمام
ويذكر التاريخ للسلطان قلاوون ما قام به من إنشاءات عظيمة ارتبطت بها نهضة علمية ونشاط وافر فأقام عددًا من المدارس التي امتلأت بالشيوخ وطلبة العلم وفي مقدمتها المدرسة المنصورية التي أوقفها لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة وكان يتولى التدريس بها كبار الأئمة وأعيان الفقهاء والمحدثين وتتضمن حجة الوقف التي كتبها السلطان قلاوون إشارات كثيرة تتعلق بتنظيم العملية التعليمية
داخل المدرسة من حيث مقر الدراسة وجلوس أهل المذاهب الأربعة بها وأماكن سكن المدرسين الفقهاء وأجورهم ورواتبهم وغير ذلك من الشروط. وتعد المدرسة من أروع المدارس المملوكية التي شيّدت بالقاهرة لعمارتها الراقية وزخارفها الرائعة ولم تكن القبة المنصورية التي أقامها لتكون مدفنًا له مقتصرة على هذا الغرض بل جعل منها مدرسة ومسجدًا ورتب بها خمسين مقرئًا يقرءون القرآن ليلاً ونهارًا وخصص لها إمامًا للصلاة وعالمًا لتفسير القرآن للطلاب الذين يؤمون القبة وجعل بها خزانة للكتب وخازنًا يقوم بأمرها وهذه القبة من أجمل القباب الباقية بمدينة القاهرة
البيمارستان المنصوري :
ومن أجلّ إنشاءات المنصور قلاوون البيمارستان الذي أقامه لتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمرضى وافتتحه السلطان في حفل كبير شارك فيه الأمراء والقضاء والعلماء وتضمنت حجة وقف هذا الصرح الطبي أنه مفتوح طوال اليوم لتقديم العلاج للمرضى دون نظر إلى طبقاتهم أو جنسياتهم ودون مقابل أو أجر ولم يقتصر دور البيمارستان على تقديم العلاج بل تعداه إلى تدريس الطب للطلاب وهو ما يشبه الآن المستشفيات التعليمية التابعة لكليات الطب حيث يتاح للطلاب ممارسة الطب تحت إشراف أساتذتهم ولم يبق من منشآت السلطان قلاوون الكثيرة سوى المجموعة المعمارية التي تضمن القبة والمسجد والبيمارستان وهي شاهدة على ما بلغته الدولة المملوكية من تقدم وازدهار شمل مناحي الحياة كلها وكان السلطان قلاوون يرجو أن ينال شرف إنهاء الوجود الصليبي فاستعد لذلك لكن القدر لم يمهله وتوفي ودفن فى يوم 7 ذو القعدة سنة 689 هـجرية الموافق يوم 11 من نوفمبر عام 1290 ميلادية