مقدمة :
فى مدينة القاهرة القديمة وفى قلب شارع المعز لدين الله الفاطمى يوجد أكبر متحف مفتوح للآثار الأسلامية حول العالم حيث تحوى جدرانها نقوش وعبارات شهدت أحداث وحقب تاريخية هامة من تاريخ الشعب المصرى
وفى منتصف شارع المعز لدين الله الفاطمى يلفت نظرك أثراً من أجمل الآثار الأسلامية فى فنون العمارة حيث تقع هذه التحفة الأسلامية المميزة التى تسحر عين الناظر أليها بمجرد مشاهدتها من بعيد وهذا المَعلم الفريد والمميز فى شكله وتصميمه والذى يٌعد واحداً من أرقى النمازج التى صُممت للأسبلة هو سبيل وكُتاب الأمير عبد الرحمن كتخدا الذى أنشأ هذا الأثر الغنى بفنون الزخرفة الأسلامية .
ولأول وهلة أثناء المشاهدة لهذا الأثر يدور فى تفكيرك تفاصيل كثبرة من الأحداث التى حدثت ومرت على هذه التحف المعمارية الشاهدة على كل هذه الأحداث التى كان لها دوراً كبيراً فى بقاء هذه الآثار رغم مرور 4 قرون منذ تاريخ البناء ولهذا المبنى سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا له أهمية فنية خاصة فهو عبارة عن مجموعة مستقلة تحتوي على الكثير من روائع الفن الإسلامي خاصة في العصر العثماني والمبنى يمثل طراز الأسبلة ذات الشبابيك الثلاثة ويتخذ شكلا يمتزج فيه الطراز المملوكي والعثماني
الموقع وتاريخ إنشاء سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا :
ويرجع تاريخ إنشاء سبيل وكتاب الأمير عبد الرحمن كتخدا إلى عام 1157 هـ – 1744م وهو ويتكون من غرفة سبيل لتزويد عابري السبيل بالماء النقى الصالح للشرب ويعلوه غرفة الكتاب وذلك لتعليم أيتام المسلمين وقد أنشأه الأمير عبد الرحمن كتخدا
يقع المبنى في موقع متميز زاخر بالآثار الإسلامية من مختلف العصور في القاهرة بشارع المعز لدين الله ,بين القصرين, عند تقاطعه مع شارع التمبكشية وهو مواجه لقصر الأمير بشتاك المملوكية
ويوجد على مفترق الطرق الذى يتوسطه الأثر الذى نحن بصدده سبيل الأمير عبد الرحمن كتخدا ,الطريق المؤدي إلى شارع التمبكشية والذى يعتبر من أشهر الوكالات الأثرية والمعروفة تماماً لكل الأثريين ومحبى السياحة الأسلامية التي بنيت في مصر في فترة الحكم العثماني والمملوكى والطريق المؤدي إلى حى الخرنفش وهو أيضاً حي أثري عريق في القاهرة الفاطمية كما يطل على شارع المعز لدين الله بواجهتين واحدة أمامية والواجهة الأخرى جانبية وعلى الشارع الآخر بواجهة أخرى ثالثة.
نبذة عن عبد الرحمن كتخدا :
الأمير عبد الرحمن كتخذا بن حسين جاويش القاردوغلي وقد تولى رعاية مصلحة الأوقاف عام 1161 هـ / 1748 م وقد وكان وكيل والي مصر وإشتهر باسم عبد الرحمن كتخدا وكان في الأصل من أمراء المماليك في عصر علي بك الكبير وقد عين بعد أن تدرج في المناصب العسكرية حتى أصبح مسئولا عن الجيش وفى عام 1150 هجرية الموافق عام 1737م رقي إلى رتبة جاويش ثم باش جاويش وذلك في عام 1152 هجرية الموافق عام 1739م .
وقد حلَ الأمير عبد الرحمن كتخدا محل سليمان جاويش في منصب السردار أو القائد العام كما كان واحدا من أعظم الراعين للحركة المعمارية خلال العصر العثماني وربما كان الأنشط في تاريخ القاهرة كله
وقد ورث الأمير عبد الرحمن كتخدا هذه النزعة المعمارية الفنية عن أبيه الذى ورث عنه ثروة طائلة إستغلها في تشييد العديد من المنشآت التي تحمل إسمه بالقاهرة والذى يميزها أنها تجمع في طرازها وطريقة بنائها بين النواحي الفنية فى تصميم المبنى والناحية الجمالية من حيث الشكل الجمالى وهذا مانراه فى السبيل والكتاب اللذان تحدثنا عنهما في السطور السابقة من هذا الموضوع
ومن أعماله قام بعمل توسعات فى الجامع الأزهر وخاصة نصف الجزء المسقوف في جهة القبلة وهذه الزيادة تتميز بأنها أعلى من أرض المسجد القديم وله أيضاً في جامع الأزهر محراب وقام بتشيد المنارة الموجودة في الركن الجنوبي الشرقي للأزهر عند باب الصعايدة الذى قام بإضافته إلي الجامع إلى جانب باب الشورية ، وهذه المنارة على يمين الداخل للجامع
كما قام بإعادة بناء المدرسة الطبرسية في مدخل الأزهر وجعلها مع مدرسة الأقبغاوية المقابلة لها من داخل الباب الكبير كما بنى مشهد السيدة زينب ومشهد السيدة سكينة والمشهد المعروف بالسيدة عائشة بالقرب من باب القرافة ومشهد السيدة فاطمة ومشهد السيدة رقية
وقام أيضاَ الأمير عبد الرحمن كتخدا بترميم وتجديد المدرسة السيوفية والبيمارستان المنصوري وكان من أجمل عمائره دار سَكنه الخاص بحارة عابدين وكانت من الدور العظيمة المحكمة الإتقان والبناء لم تماثلها دار بمصر في حسنها وزخرفة مجالسها وأبوابها من حيث النقوش والرخام والقيشاني إلي جانب بستانها البديع المزهر الذى بنيت بداخله قاعة متسعة يوجد بوسطها نافورة مفروشة بالرخام الرائع
ولما عظم شأنه في زمن علي بك الكبير غار منه وخشي أن ينافسه في نفوذه وسلطانه فتم نفيه إلي الحجاز وذلك في أول شهر ذي القعدة عام 1178 هجرية الموافق 21 أبريل عام 1765م ومكث خارج مصر لمدة 12 سنة
ثم عاد إلي مصر مرة أخرى بصحبة يوسف بك أمير الحج وذلك بعد إنتهاء الموسم في اواخرعام 1190 هجرية الموافق أوائل عام 1777م وقد كان فى حالة مرضية سيئة حيث أشتد عليه المرض وتوفي بعد قدومه بحوالي 11 يوما وكان يبلغ من العمر سبعين سنة في نفس العام الذى عاد فيه إلى مصر ودفن بالمدفن الذي كان قد أعده لنفسه قبل وفاته لدفن جثمانه بجوار باب الصعايدة بالأزهر ويقع هذا الضريح في حجرة عليها قبة يعلوها تركيبة مزينة بعدة كتابات
مما سبق نعرف أن الأمير عبد الرحمن كتخدا المعروف بأمير البنائين في العصر العثماني، وأحد بنائي القاهرة العظام، حيث قام بالأضافة إلى السبيل والكُتاب ، قام بتشييد ثمانية عشر مسجدا وكثير من المبانى بالقاهرة ، وأجرى توسعات هامة في الأزهر، كما أقام العديد من الأضرحة، بالإضافة إلى إصلاحه لعدد كبير من المساجد والمدارس المملوكية.
الأسبلة فى مصر :
إنتشر فى العصر المملوكي وأيضاً فى العصر العثماني فتم إنشاء ما يسمى بالأسبلة والتي تستخدم لتزويد عابري السبيل بالماء سواء داخل أو خارج مدينة القاهرة العاصمة ولكن مع ملاحظة أن هذه الأسبلة لم تغن عن دور السقا حيث كان له دوره الهام فلم تكن هذه الأسبلة منتشرة في كافة أنحاء البلاد فكان السقا يقوم بحمل الماء من السبيل لتوصيله إلى المنازل البعيدة عنه
وتتبارى أهالي الخير في إنشاء الأسبلة وقد إعتبرها الأغنياء نوع من الصدقة الجارية فتبارى الأمراء والأثرياء فى تشييدها بأشكال وأحجام مختلفة وقد حظيت مدينة القاهرة بنصيب كبير من هذه الأسبلة فقد تركزت الأسبلة فى المناطق الآهلة بالسكان وفى الأسواق والأحياء التجارية والصناعية مثل شارع المعز وشارع الصليبة وحى الجمالية وحى الغورية وشارع التبليطة وحى السيدة زينب وشارع البتانة وغيرها وكان منها سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا وسبيل سليمان أغا السلحدار وسبيل نفيسة البيضا وسبيل خسرو باشا بشارع المعز وسبيل محمد علي بالنحاسين وسبيل محمد علي بالعقادين وسبيل علي بك الكبير بطنطا
وكان السبيل يتكون عادة من بناء بباطن الأرض لتخزين المياه النقية والصالحة للشرب ويعلو هذا البناء مباشرة بناء آخر لتوزيع هذا الماء على المارة وقد إختلفت أشكال الأسبلة وأنماطها من وقت إلى آخر وظهر هذا بوضوح فى عمارة الأسبلة المملوكية والعثمانية ومنها النمط المصرى المحلى والثانى التركى العثمانى وبالطبع كان النمط المصرى هو السائد فى القاهرة فى تلك الفترة
وقد بلغ عدد الأسبلة التى شيدت على هذا النمط ونتيجة تسابق الأغنياء ومحبى عمل الخير وصل عددهم إلى ثلاثة وستين سبيلا ضمن سبعين سبيلا باقية فى القاهرة وتعود لهذا العصر المملوكى والعثمانى
وقد تطور السبيل مع مرور الزمن وتغير الأساليب فى الحصول على مياه الشرب وللأستخدام العادي وأصبح الدور العلوى فى الأسبلة يستخدم كُتابا لتحفيظ القرآن الكريم للأطفال كصدقة جارية أيضا مثل مياه السبيل .
أهمية مبنى سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا :
هذا المبنى له أهمية فنية خاصة، فهو عبارة عن مجموعة مستقلة تحتوي على سبيل وكتـّاب يتمثل فيهما الكثير من روائع الفن الإسلامي خاصة في العصر العثماني. والمبنى يمثل طراز السبل ذات الشبابيك الثلاثة، ويتخذ شكلاً يمتزج فيه الطراز المملوكي والعثماني معاً ، ويتكون من غرفة تسبيل لتزويد عابرى السبيل بالماء ، ويعلوه غرفة الكتاب لتعليم أيتام المسلمين قراءة القرآن الكريم
الوصف المعمارى :
ولهذا السبيل ثلاث واجهات جنوبية وشمالية وغربية متشابهة تماما ومتساوية في الطول وجميعها زاخرة بالنقوش والزخارف والمقرنصات لتزينها
وتحتوي كل واجهة على عقد نصف دائري مرتكز على عمودين من الرخام المبهر ويتوسط العقد فتحة كبيرة تقدم من خلالها أكواب الماء للعابرين أمام السبيل والقاصدين للوصول أليه وتسمي شباك التسبيل
والفتحة معقودة بعقد نصف دائري أيضا يرتكز على عمودين حلزونيين ويغطي فتحات الشبابيك شبكات نحاسية على شكل عقود ثلاثية مفصصة رائعة الجمال متقاطعة تسمح بحركة ومرور أكواب الشرب من خلالها دون أى صعوبات
ويزخرف سبندلات العقود زخارف هندسية بديعة الشكل ومنفذة بالرخام القيم الفاخر والمتعدد الألوان المبهرة للناظرين وتحتوي حوائط الواجهة الخارجية على مداميك حجرية معشقة على شكل أوراق نباتية محورة رائعة الجمال ويتوج واجهة السبيل ستة صفوف من المقرنصات تحمل أرضية الطابق الأول الذي يحتوي على الكُتاب
يقع مدخل سبيل الأمير عبد الرحمن كتخدا على شارع التمبكشية على يسار الواجهة الجنوبية وهو يشبه المداخل المملوكية ويتكون المدخل من حائط غائر يتوجه عقد رائع الجمال ثلاثي الفصوص
وسقف بنصف قبة تزخرفها صفوف من المقرنصات وهو يحتل الركن الشرقي من الواجهة الجنوبية الشرقية ويبرز عنها قليلا ويتوسط الحائط الغائر باب السبيل الذي يعلوه عتب مستقيم نقش عليه أبيات جميلة من الشعر
وتعلو العتب وحدة زخرفية رخامية عبارة عن دائرة متوسطة تحتوي على نص تأسيسي يحيط بها أربع دوائر صغيرة ،والنص التأسيسي عبارة عنة نقوش خطية تضم إسم منشئ السبيل وتاريخ الإنشاء .
وأرضية هذا المدخل مغطاة بالرخام ويؤدي هذا الباب إلى ردهة صغيرة يوجد فيها ثلاثة أبواب الأول يقع على يمين الداخل ويؤدي إلى حجرة الصهريج والثاني على يسار الداخل ويؤدي إلى الحجرة التي يقدم منها الماء المسماة بحجرة التسبيل
والثالث في صدر الردهة ويؤدي إلى السلم الذي يصعد إلى الكتاب والمسقط الأفقي لحجرة التسبيل مستطيل أبعاده 4.5 متر في 3.5 متر وسقفها خشبى ذو زخارف ملونة قوامها الأطباق النجمية وأجزاؤها ويرتكز على إزار ذى حنايا ركنية ووسطية مقرنصة غير ممتدة
وتقع شبابيك الحجرات الثلاثة ضمن حوائط غائرة في جدرانها المطلة على الشارع وهذه الجدران مكسوة بأكملها ببلاطات خزفية زرقاء اللون مزينة بشتى أنواع الزخارف النباتية ويحتوي الجدار الجنوبي على لوحة من البلاطات الخزفية تمثل منظراً للكعبة الشريفة والمباني المحيطة بها
حجرة الكتـّاب ذات مسقط أفقى مستطيل بنفس مساحة حجرة التسبيل، وتطل على الشارع من ثلاث جهات من خلال مشربيات وأضلاعها الجنوبية الشرقية والجنوبية الغريبة والشمالية الغربية عبارة عن ثلاث بائكات بواقع بائكة بكل ضلع تتكون من عقدين علي شكل حدوة الفرس ويرتكزان على ثلاثة أعمدة رخامية
ويوجد خلف البائكات الثلاث الحجرية ممر مسقوف بسقف خشبى بنفس الزخارف السابقة ولهذا الممر ثلاث واجهات كل واجهة منها عبارة عن بائكة خشبية تتكون من خمسة عقود نصف دائرية ترتكز على أعمدة خشبية
ويوجد أسفل هذه الواجهات الخشبية الثلاث حجاب من خشب الخرط بديع الشكل يعلوه صف من البائكات المعقودة المتميزة بدقة التصميم والنقوش الفنية بديعة الأشكال
وللحجرة سبعة أعمدة من الرخام تشبه أعمدة واجهات السبيل يعلوها ستة عقود مدببة من الحجر يتوجها رفرف خشبي مائل ويبرز عن هذه الحجرة شرفة بها أربعة عشر عموداً رفيعاً مصنوع من الخشب تحمل خمسة عشر عقداً ترتكز على درابزين من الخشب الخرط الجميل
كما ويتوج الشرفة رفرف خشبي أقل ارتفاعاً من الرفرف الأول ويذكر المؤرخون أن عبد الرحمن كتخدا في يوم إفتتاح هذا السبيل والكتاب ملأ حوضا كبيرا وكل ما وصلت إليه يده من الأواني بالشراب المحلى بالسكر ليسقي الأهالي وذلك ليمل صنعه بعمل الخير والأحتفاء بالعابرين على السبيل .
تضم الواجهة الجنوبية لسبيل الأمير عبد الرحمن كتخدا المدخل الذي يشكل بناؤه دخلة يتوجها عقد رائع ثلاثي مفصص ويحتوي المدخل على باب عالى يزخر بالنقوش البديعة موجود فى المنتصف
ويؤدي المدخل إلى السبيل والكتاب فالمناطق المحيطة فالصهاريج وحجرة السبيل مربعة الشكل وبها ثلاثة شبابيك مزينة واسعة المساحة وجدران الغرفة مغطاه من الداخل بالقشاني الأزرق بينما الأرضية من الرخام ويعلو حجرة السبيل كتاب يحتوي على رواق بأعمدة وقواطع من الخشب المخروط وباب النافورة مغطى برخام ملون رائع الجمال ويحمل نقوشا خطية تضم اسم البناء وأيضاً تاريخ الإنشاء وأرضية المدخل مغطاه بالرخام الفخم كما يتضمن السبيل كتابات تحتوي على اسم المنشيء وتاريخ الإنشاء، ويوجد على جزء من جدار السبيل الشرقي رسم لصورة الكعبة المشرفة